التسبيب القضائي بين القصور و الكمال
حجم خط المقالة
بقلم : الباحثة صادقي كريمة.
مقدمة :
العدالة البشرية التي يسعى
لتحقيقها قضاة الارض عدالة نسبية قد يشوبها عيب كما قد تعاب بنقص و هذا أمر مسلم
به فهي من صنع البشر فالقاضي قد يصيب كما قد يخطأ ذلك لان حكمه يقوم على الظاهر و
يعجز عن الوصول للباطن الذي يترك علمه لله عزوجل و على هذا الاساس يلتزم القاضي
التزاما قانونيا بتسبيب أحكامه تسبيبا كافيا و منطقيا يبرر فيه أساس حكمه ذلك
للتأكد من أنه لم يفصل في النزاع بناء على ميل شخصي أو جهل فهو يخضع في ذلك للرقابة أضف الى ذلك ان التسبیب
يعد ضمانة مكرسة تكريسا صريحا للحفاظ على حقوق الافراد و تحقيق محاكمة عادلة وفق
الاصول اللازمة زيادة على ما قيل فإن
الخصوم يشعرون بالطمأنینة لعدالة الحكم الصادر بحقھم كما يؤكد لهم ان القاضي قد
فحص اوراق الدعوى فحصا شاملا دقيقا و اجاب دفوعهم المثارة و التزم بسبب الدعوى و
لم يتجاوز نطاقها فالقاضي و هو بصدد التسبيب يكون امام عملية إسقاط للقواعد
القانونية على ما عرض امامه من وقائع و هذا ما يوضح لنا أهمية التسبيب القضائي لان
التسبيب أساس المنطوق وإن الهدف من دراسة هذا الموضوع الاجابة على بعض علامات
الاستفھام التي قد تدور في ذھن الخصوم أو باحثي القانون و عليه فمن هذا المنطق
تطرح أمامنا عدة تساؤلات نجيب عليها ضمن عدة عناصر متسلسلة و متتابعة وفق ترابط
منطقي يسهل على القارئ الاحاطة بأهم الافكار المتعلقة بالموضوع.
أولا : ما المقصود بالتسبيب القضائي؟ و كيف نمييزه عن غيره من المصطلحات المشابهة ؟
لم تضع
الكثیر من التشریعات تعریفاً جامعاً مانعاً للتسبیب بل اكتفت بضرورة تواجده و
تضمین الحكم الصادر للأسباب التي دعت إلى صدوره و بدوره المشرع الجزائري أكد على
وجوب تسبيب الاحكام في عدة نصوص نذكر منها نص المادة الاولى من قانون الإجراءات
الجزائية التي أشارت صراحة الى إلزامية تعليل الاحكام القضائية و بهذه الصورة و في
غياب تعريف واضح للتسبيب القضائي يمكننا معالجة الامر من خلال تعريف التسبيب
القضائي لغويا ثم إصطلاحا ثم نتعرض الى مدلوله قانونيا و قضائيا
ا-لغة
:مأخوذٌ مِن السبب، وهو كلُّ ما يُتوصَّلُ به إلى
غيرِه، كما يُطلَق على الحبْل
ب-
إصطلاحا: یقصد بتسبیب الحكم بیان الأدلة الواقعیة والقانونیة
التي بنى علیھا القاضي حكمه، ویعني اشتمال الحكم على الأسباب التي أدت إلى ظھوره
فلابد ان يتأسس الحكم على اسباب كافية
منطقية و واقعية
ج-المدلول
القانوني و القضائي للتسبيب القضائي: أشرنا سابقا أن جل التشريعات الحديثة (محل المقارنة) لم تضع تعريفا للتسبيب
القضائي و هذا ليس عيبا فوضع التعاريف أمر فقهي عادة لكن يمكننا ان نستنج مدلوله القانوني من خلال إستقرائنا
لجملة النصوص التي تصب حول فكرة الزامية
تعليل الاحكام القضائية و عليه فإن المدلول القانوني للتسبيب يعني اشتمال الحكم
على التعليلات والحيثيات الكافية التي أدت الى صدوره
"وهو
أحد الأركان الشكلية والبيانات الإلزامية التي يجب أن يتضمنها الحكم ولا بد أن
تـستند هذه الحيثيات إلى احد الأسباب التي نص عليها القانون، باعتباره الجزء الذي
يسبق المنطوق عادةً ويتضمن الأسانيد الواقعية والحجج القانونية التي بنت المحكمة
عليها قضاءها أما التسبيب من الوجهة القضائية
يعني التدوين المفصل والكامل للجهد المبذول من قبل المحكمة إلـى نهاية
النطق بالحكم وهذا الجهد يظهر ويتجلى في إظهار وإبراز وتوضيح الأسانيد الواقعية والقانونيـة
التي بني عليها منطوق الحكم" (1)
اما بخصوص تمييز التسبيب عن ما يشابهه من
مصطلحات فرأينا ان نمييزه عن التكييف نظرا لما لهما من ترابط فالتكییف ھو اعطاء
الوصف القانوني المناسب للنزاع المرفوع امام المحكمة ذلك الوصف الذي یمكنھا من تطبیق القاعدة القانونية المناسبة
عليه حيث يعتبر هذا الاخير (التكييف) همزة وصل بين الوقائع و القواعد القانونية
المطبقة حيث وبدون التكییف لا یستطیع القاضي حل النزاع بصورة دقیقة "ولا شك في أن ھناك علاقة وثیقة
بین التسبیب والتكییف، فكلاھما عمل یقوم بهالقاضي ومادة التسبیب ھي التكییف،
بالإضافة إلى أنه لا یمكن أن نصل إلى صحة أوخطأ التكییف إلا عن طریق التسبیب، فإذا
لم تسبب المحكمة حكماً تسبیبیاً كافیاً ومنطقیاً لا تستطیع محكمة الطعن الوقوف على
سلامة التكییف ولكن ھذا لا یعتبرمطلقاً ففي بعض الأحیان قد یكون التسبیب صحیحاً
ولكنه مبني على تكییف خاطئ،وھنا یكون الدور لمحكمة الطعن التي تدقق في الوقائع
وتكیفھا والأسباب التي دفعت.إلى إصدار حكم قضائي بھذه الصورةھذه العلاقة الوثیقة
بین التكییف والتسبیب لا تعني عدم وجود نقاط تفرقة بین المفھومین.فیختلف كل منھما
من حیث التعریف كما سبقت الإشارة، كما ویختلفان من حیث الأسبقیة حیث أن عملیة
التكییف تسبق عملیة التسبیب والأخیرة تستند على الأولى.أضف إلى ذلك أن التسبیب
یختلف عن التكییف من كونھ ینظم يعتبر ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة ، بینما
التكییف فإنه يندمج في تفاصيل الدعوى و ينتج أثره في الحكم " (2)
ثانيا : ما هي شروط التسبيب القضائي ؟
أ-أن تكون الأسباب مستمدة من أوراق الدعوى :
و مفاد هذا
الشرط أن لا تكون الاسباب نابعة من خيال القاضي او ضميره، بل لا بد ان تكون ملموسة
و موجودة في العالم المادي كما يجب ان
تكون الاسباب مستمدة من إجراءات الدعوى؛ باعتبارها المصدر الوحيد الذي يجب أن يستمد منه القاضي
معطيات قناعته ويعبر الفقهاء عن هذا الشرط بشرط وجود الأسباب وفي حالة غياب هذا
الشرط نكون أمام عيب شكلي يصيب الحكم القضائي ويؤدي الى نقضه بمجرد تحققه
ب-امتناع القاضي عن الحكم بعلمه الشخصي:
"
نعني هنا بالعلم الشخصي تلك المعلومات التي تصل الى علم القاضي بصدد وقائع الدعوى
او بصدد ثبوتها وصحتها عن غيـر الطريق المقرر والمرسوم لها لذا من الواجب على
القاضي ان يستند في حكمه على وقائع وادلـة طرحت عليه في إطار الخصومه فليس له أن
يبني حكمه على دليـل اسـتمده بنفـسه دون الخـصوم وحصله من خارج إطار الخصومة بل
لابد له ان يصدر حكمه ويبني اسبابه على ما يقدم امامـه فـي المرافعة ,ويثبت في
اوراق الدعوى ويعرض على اطرافها ليتمكنوا من الإجابة عليه ويقتـصر دوره على بيان
ما اذا كان الدليل من الجائز قبوله قانونا,ام لا وفقا لقواعد الاثبات الموضوعية،
والإجرائيـة٠ولا يجوز له جمع عناصر الدليل لصالح احد الخصمين" (3)
ج-أن تكون الاسباب كافية و منطقية :
يعني هذا
الشرط أن يؤسس الحكم على أسباب واضحة و كافية تحمل آية صحتها وتؤكد ان القاضي قد بحث في وقـائع القـضية بحثاً دقيقاً ان رأيه
جاء نتيجة التقصي والتمحيص ويلتزم القاضي
بناء على شرط كفايـة الأسـباب ببيان الوقائع الأساسية التي يستند إليها في حكمه
كما يشير إلى الأدلة والمستندات التي
أقنعته بـصحة هذه الوقائع وان يقدم إجابة حول كل الطلبات والدفوع الجوهرية
اما منطقية الاسباب منطقية الأسباب أي كون الأسباب تؤدي عقلا ولا منطقا إلى النتيجة التي توصل
إليها القاضي فـإذا كانت التسبيب منافيا للواقع خاليا من المنطق السليم يعتريه في
هذه الحالة عيب من عيوب التسبيب و يوصف بالتسبيب
الفاسد.
ثالثا : فيما تتجلى عيوب التسبيب ؟
إن تحديد ما
يعتبرا عيبا في التسبيب و مالا يعتبر عيبا يقتضي منا ان نتحدث عن أهم عيوب التسبيب
المتمثلة أساسا في انعدام الأسباب وعدم
كفایتھا (قصورها) والفساد في الاستدلال والأسباب الظنیةوالافتراضیة.
1- إنعدام الاسباب :
الاصل أن
يكون الحكم القضائي مسببا تسبيبا كافيا يبرر منطوق الحكم . و إن لم يكن كذلك نكون
امام صورة عدم تسبيب كلي او جزئي و عليه فإن الحديث عن هذه المسألة يقتضي منا
الاشارة الى إنعدام التسبيب الكلي و كذا حالة عدم التسبيب الجزئي.
-بالنسبة لانعدام التسبيب الكلي :
و هذه الحالة
الاقل شيوعا في الواقع العملي و نادر ما يخلو الحكم القضائي من التسبيب الكلي و
تتمثل هذه الحالة في عدم ذكر الاسباب الواقعية التي تبرر الحكم الذي انتهى اليه
القاضي كأن يسهو القاضي عن عدم ذكرها أو يرفض ذلك او يعتقد انه معفى.
-بالنسبة
لانعدام التسبيب الجزئي:
يمكن ان يحدث
الانعدام بـشكل جزئـي عندما يتضمن الحكم أسبابا تبرر جزء مما قضى به فقط دون تسبيب
الكل او أن تكون الاسباب متناقضة مع المنطوق . كما يمكن ان تتحق حالة الانعدام
الجزئي اذا ما اغفل القاضي طلبا او دفعا جوهريا كان من الممكن ان يغير اتجاه الدعوى.
2-عدم كفاية الاسباب (قصورها):
يعني عيب عدم
كفاية الأسباب وجود قصور في أسباب الحكم الواقعية
بشكل يجعل الحكم القضائي فاقد للعناصر الواقعية المهمة لتبرير القاعدة
القانونية التي طبقها عليها, "ويطلق الفقه المصري على هذا العيب من عيوب
التسبيب عيب القـصور فـي أسـباب. فإذا لم يقم القاضي بتسبيب كافة الوقائع و
المسائل و تسبيبها و عرض المبررات الكافية يعد حكمه مشوبا بالتسبيب القاصر.
"(4)
3-الفساد في الاستدلال و الاسباب الظنية و الافتراضية :
أ- بالنسبة للفساد في الاستدلال :
يشكل
هذا العيب اكثر العيوب التي تعتري التسبيب في الواقع العملي بشكل كبير هذا العيب
الذي يؤدي حتما الى الطعن و إطالة مدة التقاضي و كذا ضياع الاعمال الاجرائية
المتبعة في خصومة معينة و يمكننا ان نشير
الى بعض المفاهيم الواجب ضبطها قبل الحديث عن هذه المسألة, فما هو المقصود بالاستدلال و كيف يمكن
ان يكون فاسدا؟ ان المقصود بالاستدلال
بوجه عام هو "استنباط أمر من أمر أخر" و قد يكون الاستدلال مباشرا او
غير مباشر لكن ما يهمنا في دراسة الحال الاستدلال القضائي الذي يقصد به العمل الذي
يقوم به القاضي المتمثل باستخلاص نتيجة معينة من الوقائع المعروضة امامه و القواعد
القانونية بغية الوصول الى حكم عادل تجدر الاشارة ان بعض الشراح في الحقل القانوني
يعبرون عن القواعد القانونية بالمقدمة الكبرى التي يعتمدها القاضي و هو بصدد
الاستدلال اما وقائع النزاع فيعبر عنها بالمقدمة الصغرى بعد ان عرجنا على مفهوم
الاستدلال و ذكرنا على وجه الخصوص الاستدلال القضائي الان سنرى كيف يمكن ان يعتريه
الفساد يذهب جمهور من الفقه ان الاستدلال يكون فاسدا اذا ما حدث خلل عندما يكون
القاضي في مرحلة الاسقاط و المقارنة بين المقدمة الصغرى (الوقائع). و المقدمة
الكبرى (القواعد القانونية) لكن من وجهة نظرنا يمكن ان يكون الاستدلال فاسدا من مرحلة التكييف فالتكييف الخاطئ يؤدي حتما
الى الاستدلال الخاطئ لكن هذا ليس امرا ثابتا فقد يكون التكييف خاطئ و التسبيب
صحيحا لكن اذا نظرنا الى الامر بوجهة عملية اكثر نجد ان التسبيب يعتريه الفساد اذا
كان غير مؤسس على قواعد قانونية تتماشى مع الوقائع المعروضة او انها تتماشى بشكل
جزئي .
ب-
بالنسبة للاسباب الظنية والافتراضية :
ان المقصود بالاسباب الظنية و هو ان
يبني القاضي حكمه بناءا على واقعة غير مؤكدة بينما السبب الافتراضي فيقصد به أن
يصنع القاضي سببا في مخيليته لا وجود له في العالم المادي يبني عليه حكمه و يعد
كلا السببين عيب من عيوب التسبيب و يمكننا ان نستدل على ان التسبيب ظنيا او.
افتراضيا بأن نجد ان القاضي تبنى قضاؤه على الشك و الاحتمال و بالتالي يكون نكون امام حالة خلو الحكم من
التسبيب القانوني الكافي ویمكن إضافة إلى ذلك أنه إذا قضى أیضاً بعبارات عامة ذات
طابع عام لا تصلح لتبریر الحكم من قبیل الظن والافتراض.
رابعا : ما هو الاثر المترتب عن التسبيب المعيب؟
زيادة على ان
التسبيب المعيب يشكل مساسا صريحا بضمانة مكرسة دستوريا و قانونيا من ضمانات
المحاكمة العادلة فإنه كذلك يعد وجه من اوجه الطعن ذلك ان التسبيب المعيب يرتب له
القانون جزاء و اثرا مباشرا حيث يعتبر عيبا شكليا في الحكم الصادر يؤدي الى اطالة
مدة التقاضي و زيادة نفقته و اعادة الإجراءات . و لا يجدر بنا ان نغفل الاثر
المعنوي في نفوس الخصوم لاننا كما و سبق ان أشرنا بأن التسبيب يبعث الطمأنينة في
نفوسهم و يعتبر كضمانة لهم فيقتنعون بما وصل اليه القاضي نتيجة استدلاله و تحقيقه
بشأن طلباتهم و دفوعهم.
خامسا : فيما تكمن اهمية التسبيب القضائي؟
يحظى التسبيب القضائي بأهمية بالغة و مكانة
متميزة باعتباره ضمانة من ضمانات المحاكمة العادلة تارة و اعتباره أحد العناصر
الشكلية تارة اخرى. فإن اهميته البالغة تظهر لنا جليا خاصة بالنسبة للخصوم و كذا
جهة الطعن كما ان له اثر في تقوية الحكم القضائي و تعضيده
فبالنسبة
للخصوم فإنه يبعد الشك و الريبة و يزيل
الشبهات و يبعث في نفوسهم الثقة حيث ان "التسبيب ضمان للخصوم يعرفهم بالآلية
التي من خلالها تم الفـصل بنـزاعهم المعـروض علـى المحكمة وعلى أي اساس تم
"(5).
اما
بالنسبة لجهة الطعن فإنها تبسط دورها الرقابي
من خلال مراقبتها لمدى صحة التسبيب و منطقيته و وواقعيته و مدى انطباق
القواعد القانونية و تماشيها مع وقائع الدعوى حيث يعد وجها من اوجه الطعن او وجه
من اوجه الاستئناف حيث ان تسبيب الحكم اساس المنطوق
و بالنسبة
لتقويه الحكم القضائي و تعضيده و منحه قوة الشئ المحكوم فيه فما التسبيب الا مظهر
من مظاهر قيام القاضي بالتزام قانوني و يمكننا ان ننظر الى الامر من زاوية اخرى
فالتسبيب يحقق عدة مبادئ كمبدأ العلانية و مبدأ حق الاثبات و غيرها من المبادئ
التي يفرضها واجب تحقيق العدالة .(5)
خاتمة :
في الختام يمكننا القول ان التسبيب القضائي
يشكل ضمانة اساسية تضمن تحقيق محاكمة عادلة على هدي المبادئ الدولية تبعث في نفس المتقاضي طمأنينة لذا فالاصل ان
تكون الاحكام مسببة تسبيبا كافيا و منطقيا و الاستثناء ان لا يكون كذلك و لا يكون
الاستثناء الا بموجب نص صريح يجيز ذلك.
قائمة المراجع:
2-أسماء محمد خلف الرقاد.عيب عدم تسبيب الحكم القضائي.جامعة البلقاء التطبیقیة-كلیة عمان الجامعیة.عمان- الأردن.
.Hady Hussain Al-Kaaby-3
Ali Faisal Noury-4 .مجلة المحقق الحلي للعلوم القانونية والسياسية العدد الثاني/ السنة السادسة.
إحذر انتهاك حقوق الملكية الفكرية لهذا الموقع.
إرسال تعليق